مقال رأي وتحليل سياسي
بقلم: Taroudant Press 24
عرف المشهد السياسي المغربي خلال الأسابيع الأخيرة لحظة دقيقة ومفصلية، جسّد فيها الملك محمد السادس دور الحكم والضامن لتوازن الدولة، في تفاعل مباشر مع حراك شباب الجيل Z الذي خرج إلى الشوارع في أكثر من 28 مدينة، معبّراً عن غضب اجتماعي عميق تجاه الأداء الحكومي.
في هذه اللحظة الحساسة، لم يختر الملك طريق التصعيد، ولم يلجأ إلى حلّ البرلمان أو إسقاط الحكومة، حرصاً على صون التوازنات الهشّة داخل البنيان المؤسساتي للمملكة. لكنه، في المقابل، أنصت بعمق لصوت الشباب، وتفاعل بذكاء مع رسائلهم التي حملت في جوهرها مطلب العدالة الاجتماعية والكرامة والإنصاف.
الملك كحَكَم وضامن للتوازن
تدخّل الملك في الوقت المناسب ليُعيد تصحيح المسار. فقد وجّه لمسات اجتماعية واضحة على مشروع قانون المالية للسنة المقبلة، بإدراج إجراءات ملموسة تهمّ الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية، وأعطى تعليماته لإطلاق مبادرات تفتح المجال أمام دخول الشباب إلى المعترك السياسي والانتخابي، بما يعكس إرادة عليا في احتضان هذا الجيل الجديد سياسيًا، وليس اجتماعيًا فحسب.
كما أطلق الملك ورشًا طال انتظاره، يخصّ تفعيل الحق الدستوري في الطعن في دستورية القوانين أمام المحكمة الدستورية، وهو حق ظل مجمداً منذ 14 سنة بسبب عراقيل سياسية ومؤسساتية. بهذا القرار، بعث الملك رسالة قوية مفادها أن الإصلاح الدستوري والسياسي لا يمكن أن يظل مؤجلاً أمام مطالب الشباب والمجتمع المدني.
صدمة حكومية وارتباك سياسي
الزلزال الشعبي الذي أحدثته احتجاجات الشباب، وما رافقه من حملة اعتقالات واسعة شملت أكثر من 600 شاب، وضع الحكومة أمام صدمة سياسية ونفسية غير مسبوقة منذ أحداث 16 ماي 2003. وبدل أن تنصت لمطالب المواطنين، اختارت الحكومة الانغلاق والتبرير، ما أدى إلى تفاقم أزمة الثقة بينها وبين الشارع.
بلاغ الديوان الملكي الأخير جاء بمثابة خطة إنقاذ وطنية، تجاوزت البرنامج الحكومي، ووضعت معالم جديدة لسياسات عمومية أكثر إنسانية وتوازناً. وبذلك، تحوّلت الحكومة عملياً إلى حكومة تصريف أعمال تُنفّذ التوجيهات الملكية، أكثر مما تُبادر إلى وضع سياسات من إنتاجها.
من حكومة رجال الأعمال إلى حكومة المراقبة الشعبية
الحكومة الحالية، التي وُصفت بأنها حكومة “رجال الأعمال”، وجدت نفسها في وضع صعب بعد أن تحوّلت الاحتجاجات إلى محاسبة جماعية على سياسات التفاوت الاجتماعي. فالمزج بين القرار السياسي والقرار المالي، وما يرافقه من تضارب مصالح صارخ، جعلها تفقد شرعية الشارع قبل منتصف ولايتها.
ومن هنا، جاء تدخل الملك ليعيد التوازن إلى المعادلة السياسية، من خلال تصحيح مسار السياسة الاجتماعية، وإعادة الاعتبار إلى الفئات المتوسطة والفقيرة، وتأكيد أن الاستقرار لا يتحقق بالقمع ولا بالصمت، بل بالإصغاء والتفاعل والمحاسبة.
لحظة نهاية الأحزاب التقليدية؟
فتح المجال السياسي أمام الشباب والمستقلين يعني عملياً بدء مرحلة جديدة من الحياة السياسية المغربية، عنوانها تجديد الدماء في المؤسسات المنتخبة. إنها إشارة إلى أن زمن الأحزاب التقليدية المترهلة قد اقترب من نهايته، بعد أن فشلت في تجديد خطابها، وفي تمثيل المواطنين بشكل حقيقي.
فالجيل الجديد من المغاربة، الذي تحرك بعفوية ومسؤولية، لم يعد يثق في الأحزاب التي استنزفت الرصيد السياسي للبلاد عبر الشعارات الفارغة والولاءات الريعية. وهنا، يمكن قراءة الرسالة الملكية كـ دعوة لإعادة بناء الحياة الحزبية على أسس جديدة من الكفاءة والنزاهة والمشاركة المواطِنة.
ما جرى خلال الأسابيع الأخيرة ليس مجرد أزمة عابرة بين الحكومة والمحتجين، بل هو منعطف سياسي عميق يؤسس لمرحلة جديدة من العلاقة بين الدولة والمجتمع.
لقد اختار الملك الإنصات بدل المواجهة، والإصلاح بدل الهدم، والتهدئة بدل التصعيد. وهي اختيارات تؤكد أن المغرب، رغم التوترات، ما يزال قادراً على تحويل الأزمات إلى فرصٍ للتجديد والإصلاح.
