البهلوان بديل المثقف.. حين تصبح الثقافة ترفًا
في مسار تطور المجتمعات، تبرز الثقافة بوصفها العمود الفقري الذي يرتكز عليه البناء الحضاري والفكري. لكن واقعًا مريرًا يفرض نفسه في بعض الأوساط: هناك مجتمعات لا تعتبر الثقافة بمفهومها العام أولوية. يصبح الاهتمام بالعمق الفكري والمعرفي كماليًا، بينما تحتل السطحية والترفيه الفجّ الصدارة. هذا الانزياح الخطير يخلق بيئة خصبة لظاهرة مقلقة.
استبدال الرصيد بالصخب: المثقف يُطرد ليدخل البهلوان
عندما تتراجع قيمة الفكر النقدي والإبداع الجاد في سلم الأولويات المجتمعية، يصبح الفراغ هائلًا. يسهل عندها استبدال المثقفين بالبهلوانات. لماذا؟ لأن البهلوان – بمفهومه المجازي هنا – يقدم عروضًا سريعة، سطحية، تهدف أساسًا إلى الإضحاك أو التلهية دون طرح أسئلة مزعجة أو تحفيز للتفكير. إنه يقدم "الخفّة" بدل العمق، و"الصخب" بدل الصمت التأملي. في غياب التقدير المجتمعي لدور المثقف الحقيقي – الذي يشعل العقول ويحفر في الأسئلة الصعبة ويقدّم رؤى نقدية – يجد البهلوان طريقه ممهدًا ليحتل المنصة، ليس لأنه الأفضل، بل لأنه الأكثر توافقًا مع رغبة في الهروب من التعقيد. تصبح الأضواء مسلطة على من يلهي، لا على من يضيء.
دعم الانحدار: المال يغذي الظل بدل النور
الأمر لا يتوقف عند تفضيل العامة للعروض السطحية. ويسهل لدى ميسوري هذه المجتمعات تشجيع ذلك بسخاء. فالميسورون، بلا وعي ثقافي راسخ أو رؤية تنموية حقيقية، قد يجدون في دعم البهلوانات وتلميعهم وسيلة سهلة للظهور "كروّاد" أو "داعمين للفنون"، لكنه دعم مشوّه. قد يكون بدافع حب الشهرة الرخيصة، أو لخلق ولاءات شخصية، أو ببساطة لأن هذه العروض لا تهدد مصالحهم أو تزعج استقرارهم المريح. السخاء المادي هنا لا يغذي الثقافة الحقيقية، بل يغذي ظاهرة تزييف الوعي واستمرار التسطيح، لأنه يُبقي على ما هو سهل ومربح تجاريًا في المدى القصير، على حساب ما هو ضروري وجوهري لمستقبل المجتمع.
الخاتمة:
هذا التحول من ثقافة الفكر إلى ثقافة الاستعراض ليس سقوطًا تلقائيًا، بل هو نتيجة تراكمية لإهمال متعمد أو غير واعٍ لقيمة المعرفة العميقة والتفكير النقدي. إنه إنذار لمجتمعات تختار طريقًا قصيرًا مليئًا بالضجيج، لكنه يقود إلى فراغ فكري خطير. إن إعادة الاعتبار لدور المثقف الحقيقي، وخلق بيئة تدعم إنتاجه وتقدّره، ووعي الميسورين بمسؤوليتهم في دعم ما يبني لا ما يهدم، هي وحدها الكفيلة بتحصين المجتمع ضد استبدال نور العقول بظل البهلوانات.
بقلم: أحمد أخبار تارودانت
عن جريدة تارودانت بريس 24 | Taroudant Press
الكلمات المفتاحية: المجتمع والثقافة - المثقفون والبهلوانات - أولويات المجتمع - تهميش الثقافة - دور الميسورين - الثقافة السطحية - النقد الثقافي - تارودانت بريس.